من ذكرياتي المهنية الأولى عندما بدأت امارس الطب سنة ١٩٧٠ في منطقة البطوف ان مدير مستشفى الناصرة، المرحوم الد. هانس برناث، كان يطري برسائلي الطبية عندما كنت احول أحد مرضاي اليه بقوله انها كانت تشبه رسائل الدكتور الياس سروجي في تفصيلها وسردها لانطباعاتي عن مرضاي. بيد ان انتظاري الطويل للقاء هذا الطبيب الفذ امتد ما يقارب ربع قرن كما سأورد لاحقا في هذه المراجعة لكتاب مذكراته.
ينهي المرحوم الدكتور الياس سروجي كتاب مذكراته (من مروج الجليل—مذكرات طبيب من الناصرة، مطبعة الحكيم، ٢٠١١) الغني بالأحداث بفصلين يلخصان وجهة نظره في صنفين من تلك الاحداث المرموقة التي تغلب على محتويات الكتاب، الأولى تخص التطورات التي عاصرها في مجال الطب، خصيصا طب الأطفال، والصحة الجماهيرية، والأخرى الاحداث السياسية والحروب التي عاصرها وعصفت به وباهله ومعاصريه من الفلسطينيين واللبنانيين. اليكم هذا الاقتباس بهدف الإشارة الى رؤية زميلنا الموقر السياسية والوطنية الثاقبة والتي تظهر وكأنه يكتبها في يومنا هذا معلقا على احداث البطش بفلسطينيي غزه:
"والان وبعد عشر سنوات لا يزال الاحتلال جاثما بكل ثقله على صدر هذا الشعب الصامد والصابر. احتلال يرقى الى درجة العبودية ظلما وشراسه في عصر المدنية والحضارة وهيئة الامم والشرائع المكتوبة والمدموغة بتواقيع منظمات حماية حقوق الانسان وحقوق الشعوب والاوطان. كل هذا لان القطب الاكبر في كل هذه المؤسسات الدولية والمهنين عليها واقع تحت تأثير المال والنفوذ والاعلام المحتكر من قبل هذا المحتل الغاشم.ان الوحشية التي يستخدمها الاسرائيليون في قمع الانتفاضة وكل اشكال المقاومة تلهب الاحقاد والكراهية لدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين لتصل حتى الى شرائح كبيرة من شعوب العالم. ويجدر بي هنا ان اذكر الشعب اليهودي بما جرى في القرون الغابرة عندما لم يجد الملجأ والحماية الا في كنف العرب والمسلمين هربا من الظلم والطغيان الاوروبي. ان الصراع القاتم سيطول امده الى الاجيال القادمة ان لم تتغير النوايا والاساليب وعلى الجميع ان يتذكر بأن التاريخ لم يسجل ابدا واقعة واحدة لشعب ظلم واحتلت ارضه وبقي على حالته. فهو اما انقرض او تحرر. ولا ارى اي دليل لانقراض الشعب الفلسطيني والعربي. لقد ثمل الاسرائيليون من انتصاراتهم العسكرية التي حققوها بفضل العطايا السخية من الولايات المتحده وفي غرورهم لا يرون ابعد من انوفهم ولا يرون الاشياء بوضوح."
بمثل هذه العجالة يعقب الدكتور سروجي على ما عاناه وعائلته من صعوبات وتنكيل. لنأخذ علي سبيل المثال محاولته العودة مع والده المريض سنة ١٩٤٨ الى مرابض سني دراسته وتخصصه المهني في ربوع الجامعة الامريكية في بيروت اذ يصادف مرورهما بقرية الرامة الجليلية مع احداث احتلالها من قبل القوات الإسرائيلية مما يضطرهما الى اللجوء هناك لبضعة أسابيع. وصف زميلنا لأحداث احتلال الرامة واعمال التنكيل والتشريد التي عاناها او شاهدها بنفسه من اصدق وأدق ما قرأته من سرد بهذا الخصوص. ولديه أيضا الكثير مما يسرده عن احداث الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان لاحقا وحصارها لبيروت.
اما عن الناحية المهنية المحضة فيكتفي المؤلف في ملاحظاته النهائية في الفصل قبل الأخير من المذكرات بسرد إنجازات عصره العلمية في مجالات الطب والصحة في لائحة موجزه وثم في لائحة أخرى، وبصورة مختزلة أيضا، فيعدد التحديات والإنجازات المتوقعة مستقبلا في نفس المجالات وفي سواها من حقول العلم والمعرفة.
ليسمح لي القارئ هنا ان أعلق من تجربتي الشخصية على احدى إشكالياتكتابة المذكرات بشكل تراجعي او انتقاء ما كان المؤلف قد دونه سابقا عبر سنوات حياته، الا وهي صعوبة اختيار ما يورده المؤلف وما يستثنيه. يكفينا بهذا الصدد الإشارةالى القول المألوف بان تدوين احداث حياة بكاملها، لولا خدعة الاختزال، لتطلبت زمن حياة أخرىبكاملها. خرجت من قراءتي لهذا الكتاب الشيق بشعور غامر عن مدى تواضع الدكتور الياس سروجي وعن ميله الى تقليص الناحية الثالثة من محتويات مذكراته المدونة، الا وهي الشؤون الشخصية والعائلية بحيث تقتصر تلك على بعض ذكريات طفولته وصباه في حي سوق الاثنين الشعبي في الناصرة وثم في قرية برناما في لبنان. بعد ذلك يندر الحديث التفصيلي عن الشؤون الشخصية ما عدى الإشارةالعابرة الى الاحداث المركزية من ولادات واحتفالات التخرج والقران وما اشبه.
وجه مميز اخر من انجازات الدكتور سروجي في كتاب مذكراته الشيقة هذا هو أسلوبه السردي الخلاق والذي شدني الى الاستمرار في قراءته بشكل حثيث، إضافة الى تواصلنا المهني والفكري غير المبرمج عبر هذه الصفحات وعبر رحيله الى جوار ربه قبل قراءتي لمذكراته هذه. على الرغم من الترتيب الزمني العام لمحتويات الكتاب فإن مؤلفنا اذ يبدأ سرده لحدث معين يستمر في متابعة مجرى هذا الحدث الى نهايته عبر الفترة الزمنية المتعلقة به حتى ولو اقتضى الامر اختراق الإطار الزمني العام مؤقتا والعودة اليه لاحقا. هذا الأسلوب الروائي المميز يعطي بعض احداث هذه المذكرات خاصية وبروزا استثنائيا يرسخها في ذاكرة القارئ. كما وان المؤلف يحتال أحيانا على قارئه بذكاء وخفة تضيء بعض جوانب سرده بشكل مفاجئ ليزرعها في الذاكرة الى الابد: خذ على سبيل المثال صورة الجنرال ديغول وهو يتمشى متنزها في الناصرة بقرب بيت المؤلف في سني شبابه. او خذ مثلا الصورة شبه الفوتوغرافية التالية: مؤلفنا الطبيب الشاب، اول طبيب أطفال مختص من أبناء الجليل، وهو يقف منفردا فوق صخرة بجوار حرم شنلر ليشرف من بعد على مسيرة جنازة جده انطون، كل ذلك نتيجة لقراره بلزوم حجره القسري وامتناعه عن مخالطة وملامسة الاخرين بحكم عمله كمدير المستشفى الذي أنشئ على عجل لإيواء الأطفال من قرى الجليل المجاورة للناصرة والمصابين بعدوى الجدري المشوه ان لم يكن المميت. ليتصور القارئ مدى رسوخ هذه الصورةفي ذهني خصوصا وانني، انا طبيب الصحة الجماهيرية والوقاية، والذي تسنى له بفضل أبحاث وجهود الاف الأطباء والعاملين الاخرين في حقل الصحة ان يحتفل مع عاملي مكتب الصحة في الناصرة، وثم من على أمواج الاثير في مقابلة في الراديو سنة ١٩٧٧ بالقضاء على هذا الداء الفتاك الى الابد. تصور، أيها القارئ العزيز، مدى دهشتي عندما قرات ما يذكره الد. الياس سروجي في مذكراته حول البحث الاحصائي البسيط والمميز الذي اجراه هو حول تأثير المصل الواقي في شفاء الأطفال حسب فترة مرضهم. مثل هذا البحث المتواضع وهذا التفادي النير في الخدمة الطبية هو الذي أدى الى الخلاص من هذا الداء نهائيا.
هذا ومما سرني من محتويات هذا الكتاب هو تطرق مؤلفنا الكريم الى ذكر العديد من شخصيات الناصرة، عاصمة جليلنا العربي، والذين أسعدني التعرف عليهم شخصيا او مصادقتهم، من أمثال الد. هانس برناث، الد. سامي جرايسي والسيد فوزي الحكيم على سبيل المثال لا الحصر. كما ويسعدني أيضا ما يتردد من على صفحات هذا الكتاب من ذكر العديد من مشاهد الناصرة العامة وحتى من امثلة تراثها الشعبي الاصيل. خذ مثلا هذا المشهد العريق الذي يرويه طبيبنا مستذكرا سني عمله الاولى في مسقط راسه:
"حول صلابة صلة القربى في مجتمعنا الشرقي عبر عنها اخوان كهلان بأبلغ أسلوب:لم يكن حنا غريب، وهو اخ لالياس قد زار اخاه او كلمه منذ خمسة وعشرين سنه نتيجة نزاع دب بينهما. وفيما كنت اجلس على الديوان احدق في الشارع المقابل بانتظار ميشيل, رأيت حنا وهو رجل بدين يعتمر الحطة ويلبس القمباز, يخطو بتثاقل نحو المنزل. شاهدت اضطرابا في الغرفة عندما لمحت احدى الفتيات عمها قادما وهمست في اذن امها. دخل حنا وجلس بقربي على الديوان دون ان ينبس ببنت شفة, كان ينظر الى اخيه وهو يلهث بنفسه بصعوبة ويئن بصوت عال. ساد الصمت لبعض الوقت وكنت في قرارتي اسائل نفسي عما يمكنني ان اتفوه به علني اتمكن من ازالة الحرج المخيم, فجاه قطع حنا هذا الصمت بهمهمة خافته صعد منها تدريجيا الى عتابا بطلعة يطلب فيها من اخيه الصفح والمغفرة. ما كاد حنا ينهي وصلته حتى حصل ما ادهشنا وعقد السنتنا اذ فتح الياس عينيه وحولهما باتجاه اخيه ورد عليه بمقطوعة من العتابا تذكره بأيام صباهما معا وبالاهل والجذور, واستمرت العتابا سجالا بينهما. اخذت عيون الاولاد تغرورق بالدموع, الام التي احمر وجهها انفعالا اخذت تسرع في تهوئتها لزوجها وترطيب جبينه وشفتيه, اما انا الطبيب الشاب حاولت جهدي ان احافظ على رابطة جأشي واحبس دموعي. لم اخبر زميلي كونتزر ابدا بهذا الجزء من القصه عندما جاء في اليوم التالي ليزور الياس ويعالجه لبضعة ايام."
بمثل هذا الوميض من الاصالة والانتماء يشدني زميلي الد. الياس سروجي اليه أينما اخذه ترحاله الدراسي والمهني من فلسطين الى لبنان وعودة الى الناصرة ثم ثانية الى لبنان فأمريكا فالبحرين دون ان ينقطع عطاؤه كطبيب ومحاضر ومعلم ومرشد لأطباء اخرين. لا يتوقف اعجابي بهذا الزميل وبأدائه المهني، بالرغم من فارق الجيل بعقدين تقريبا، بل ويتعدى ذلك الى محاولتي الواعية في نظرتي التراجعية هذه والتي تأتي متأخرة، لان اتمثل به وان اجد القواعد المشتركة بيننا والسلوك المتشابه، فكلانا، او كذا اود انا ان اصدق، مارس مهنة الطب مستجيبا لاحتياجات الساعة والمجتمع .كما وتعاملنا مع متطلبات اوضاعنا الطارئة دون ان نهمل تطلعاتنا الاكاديمية، حتى ولو انعدمت مثل تلك الإمكانيات عمليا، ومحاولتنا تدوين الاحصائيات واستخلاص العبر مما كنا نشاهده حولنا في الحقل وتعميم تلك العبر على الزملاء من خلال محاضرات او مقالات علميه. كذلك الامر نتشارك في رؤيتنا الاوسع للتوفيق بين العمل الطبي تحت شروط عير مواتيه وواجبنا تجاه مجتمعنا من ممارسة الوقاية واسس الصحة العامة على مستوى نشاطنا الجماهيري. حتى وأجدني اتشبث بأمور واهية لكسب مشاركتي مع زميلي هذا في المبادئ والسلوكيات متل زواجنا الاثنين من نساء عبر الحواجز الدينية مثلا. وبهذا الخصوص، لا بد لي ان اذكر علاقتي الودية مع زميلي الدكتور عزيز سروجي، اخ الدكتور الياس، ومع زميلتي الدكتورة سوزي سروجي، والقائمة تطول وتتشعب، وللحديث شجون.
ليتصور القارئ الفاضل كم كانت مفاجأتي سارة عندما قرأت في صفحة ٣٣٣ من هذه المذكرات ما يلي:
"في خريف عام 1994 وبرفقة صديقي وزميلي الدكتور نبيه ابو العسل الاستاذ في كلية الصحة العامة في جامعة اوكلاهوما حضرنا المؤتمر السنوي للجمعية الامريكية للصحة العامة في واشنطن, وهناك التقينا وتعرفت الى الدكتور حاتم كناعنه ابن الجليل وخريج كليتي الطب والصحة العامة في جامعة هارفرد وتبادلنا الآراء في امور الاحوال في الجليل وخاصة الصحية منها واطلعنا من الدكتور كناعنه عن "جمعية الجليل" التي تقوم ضمن اهدافها بدراسة الظروف والاحتياجات الصحية لعرب اسرائيل وخصوصا الجليل."
بقي لي في هذه العجالة ان اوصي الجيل الصاعد من أهلنا أيا كانوا، وخصوصا أصحاب مهنة الطب والمهن الصحية الأخرى وطلابها، وعددهم يتزايد اضطراديا لحسن الحظ، بقراءة هذا الكتاب القيم ليس لكسب المعرفة وللاطلاع على احداث حياة هذه القدوة الصالحة فقط، كما وليس اجلالا لذلك الطلائعي الفذ فقط، بل وأيضا للمتعة بنتاج ادبى جذاب.
No comments:
Post a Comment