Tuesday, August 14, 2018

تقنيات الابداع لدى الدكتور مناع

   
 .Note: This is the second article I post in my attempt to make up for my recent tardiness

في كتابه ،نكبه وبقاء، حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل(مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ٢٠١٦،) يؤكد الدكتور عادل مناع تكرارا على ان موضوع بحثه، رغم تشعبه وتداخلاته العديدة، يستهدف فهم وتوثيق صراع البقاء الذي خاضه سكان حيفا والجليل لمقاومة المشروع الاستعماري الصهيوني لترحيلهم من وطنهم والاستيلاء على ارضهم وبيوتهم. كما ويحدد حقبة بحثه الزمنية بسنوات ١٩٤٨-١٩٥٦. ويسلط الضوء أكثر ما يسلطه جغرافيا على محيط مجد الكروم، قرية مولده ومرتع طفولته، اذا جاز استعمال مثل هذا التعبير المرح لوصف ذكرياته من تلك الحقبة من العناء سوآءا كان بسبب سماعه حكايات الاحتلال والقتل والتنكيل في الفترة الأولى من النكبة بما فيه اعدام زوج جدته الثاني في ساحة العين ونسف بيتها (إجابة على ما يظهر لإبرازها توصية مكتوبة بالعبرية كانت قد حصلت عليها من اخيها بالرضاعة من الجاعونة، مانو فريدمان) ثم الرزح تحت نير الحكم العسكري وجهاد البقاء مثل ترحال عائلته بين الجليل ولبنان ومثل مزاولته التجوال بين بيوت ضواحي حيفا اليهودية لبيع التين من حقل عائلته في حين عملت جدته في غسل ملابس العائلات اليهودية باليد وكنس بيوتها.

لاينبع إعجابي بهذا الكتاب لكوني مؤرخا ضليعا ولا لأني رجل سياسة ملتزم بقناعة مبدأية مسبقة. كما ولم أقدم على مهمتي الطوعية هذه لأتعرض لمحتوياته كطالب علم يستطلع احداث النكبة الفلسطينية عن بعد، فأنا أحد أبناءفلسطين الذين عايشوا كثيرا من الاحداث التي يتركز فيها المؤلف في بحثه الموثق هذا. لقد كنت في فترة النكبة طفلا يعي ما يدور حوله حتى ولو في نطاق جغرافي ضيق قد لا يتعدى قرى البطوف، وان تعداها فلا يتعدى حدود الجليل. لقد عانيت مثل غيري من أبناء سني ولي ذكريات اليمة رويتها في مواقع أخرى من كتاباتي. بمقدور القارئ إذا ان يتصور مدى تأثري بسرديات المؤلف الحية عن احداث النكبة في الجليل والتي يوردها بغزارة وبصورة مباشرة من رواتها الذين عايشهم او قابلهم شخصيا. هذه السرديات هي في الاساس ما يستحوذ جل اهتمامي في مراجعتي هنا.

لقد بادرت الان، بعد تقاعدي من العمل في حقل الطب، لقراءة هذه الدراسة المفصلة ودراسات اكاديمية اخرى مشابهة استعدادا لصياغة أحد فصول رواية ما زلت اقضي الكثير من ساعات فراغي في كتابتها. لقد اكتسبت الكثير من المعلومات التاريخية والحقائق التفصيلية الجديدة جراء قراءتي هذه. كما وقد اخالف المؤلف الرأي احيانا في تحليلاته النظرية. لكن ما أبهرني عند قراءة هذا المجلد هو الجهد والدقة المتعمدة في صياغة الكتاب كأداة للدراسة الأكاديمية، وهذا ما سأحاول شرحه والتأكيد عليه فيما يلي. وسوف ابتعد طوعا قدر الامكان عن الخوض في متاهات التنظير والتحليلات من منطلقات أيديولوجة، بالرغم عن علمي بوفرتها.

على المستوى التقني البحت، يبدع المؤلف بترتيب عرضه التاريخي المعمق هذا بصيغة تسهل على الطالب الجامعي مثلا ليس مهمة المذاكرة فقط بل ورصد المراجع ايضا وتمحيص المحتويات المركزية وترتيب الاحداث زمنيا وجغرافيا والاستناد على مئات المراجع التوثيقية إذا لزم الامر. فكل فصل من فصول الكتاب السبعة يأتي مقسما بصورة منطقية تساعد في تأطير الاحداث حول المفهوم الموحد لكل من أجزاء ذلك الفصل العديدة. كما ويعود المؤلف ويلخص محتويات معظم الفصول قبل نهايتها بصورة مقتضبه بحيث يتسنى للقارئ ان يستذكر معلوماته المكتسبة من ذلك الفصل قبل الولوج فيما يليه من تدوين الاحداث وطرح التحليلات الإضافية. كما يضيف المؤلف بعد كل فصل قائمة بعشرات بل ومئات المراجع المشار اليها رقميا في صلب ذلك الفصل. بهذا يقوم مؤرخنا الموقر بالتوثيق الكامل للمراجع العينية لكل ما يورده في سرده الدقيق هذا، سواء كان بالإشارة الى الدراسات الاكاديمية او الى المصادر الصحفية او التقارير والمراسلات المدفونة في غياهب الارشيفات الرسمية لمرتكبي جرائم الحرب التي تتمحص عنها الكثير من الأحداث التي يحتويها الكتاب. أضف الى هذا الفهرست الذي يذيل المؤلف به كتابه بحيث يمكن القارئ المعني ان يغربل الكتاب برمته للتفتيش عن موضوع او شخص او موقع معين. هذه الثروة من المراجع والملاحظات التوثيقية تمكن للقارئ من التوسع والاسترسال في البحث إذا شاء.

هرمنا، نحن أبناء جيل النكبة، وفي جعبتنا أسهم قليلة نرشق بها مجادلينا الصهاينة كلما استدعى الموقف ذلك، أحدها وأقساها في ذاكرتنا واوسعها رواجا في المجال الدولي هي مذبحة دير ياسين، إذ أرادها مصمموها ومقترفوها عبرة لمن يعتبر من الفلسطينيين وقاموا بإبرازها وربما بتهويل حجمها آنذاك. ولكن المصادر الإسرائيلية الرسمية المتاحة حتى الان، وكأنها سقفنا الأعلى الموصد، تتعمد تغييب العشرات بل والمآت من المذابح الأخرى التي ارتكبتها قواتها في حقبة النكبة. فيأتي مؤلفنا المتمرس في علم التوثيق الشفوي الآن ويسرد لنا (كما سبق وسرد سواه من الفلسطينيين ولا شك) مع المراجع وبصيغة مبسطة مباشرة، احداث الكثير من هذه المذابح معتمدا المقابلات التي اجراها كما والمراجع المدونة. وهو، ولا شك، يعي حساسية زملائه الصهاينة للروايات الفلسطينية هذه التي لا يشك هو ولا سواه من فلسطيني الجليل في صدقها، ولذا يشدد على توثيقها وعلى دقة روايتها. وإذ يوثق المؤلف حقيقة حدوث كل من هذه المذابح المتعمدة فنراه يعتمد المرة تلو الأخرى على مقابلاته الميدانية حولها خصوصا ممن شاهدوها او عانوا أنفسهم من جراءها. ويكفي ان نورد، على سبيل المثال لا الحصر، أحد احداث مذبحة قرية الصفصاف الجليلية المدمرة من اجل ان يتذوق القارئ هنا مدى وقع أسلوب مؤلفنا التوثيقي وبساطة سرده المباشر:
وكانت احدى النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب هي عزيزة شريدة, قريبه فاطمة شريدة, التي ولدت بنتا بعد النكبة بسنوات سمتها عزيزة. لقد تركت اعمال القتل والاغتصاب وتهجير السكان في الصفصاف اثرا كبيرا في سكان المنطقة الذين دب فيهم الرعب من تكرار تلك الاحداث في قراهم. ولم ينس كل من سمع وعرف بقصه عزيزة شريدة تفصيلاتها. كانت عزيزة امرأة في الثلاثينيات من عمرها حين دخل الجنود الى بيتها ووجدوها مع أفراد عائلتها. وقرر الجنود ان يغتصبوا هذه المرأة الجميلة امام اعين ابنها البكر (17 عاما) وزوجها وأولادها الصغار, لكنها رفضت وقاومت. وهدد الجنود بقتل الابن البكر اذا لم تلبي رغبتهم, وفعلا قتلوه امام عينيها, ثم هددوا بقتل زوجها ان لم تخلع ملابسها فرفضت, فأطلق الجنود الرصاص على زوجها واردوه قتيلا. بعد ذلك قتلوها أمام اعين أطفالها الصغار قبل أن يغادروا بيتها, وقد أخذ أحد الأقارب على عاتقه تربية الأطفال الذين تيتموا وانضموا الى قوافل اللاجئين.

موضوعيا، في العشرات من المواقع نجد المؤلف يستنهض الهمم عند قرائه الأكاديميين للتعمق في دراسات اوسع لعشرات الأحداث والمعضلات البحثية التي صادفها ويرتأى انها تستقضي الدراسة والتمحيص الزائد. وكأني به يضع امام المؤرخين الشباب المعنيين الاقتراح تلو الاخر لمواضيع ابحاث جامعية ذات وزن لم ينلها نصيبها من البحث والتوثيق مثل تفاصيل سقوط يافا وسواها الكثير.

أرى ان اعيد هنا وأكرر ان مؤلفنا يبذل جهدا كبيرا في استقصاء الروايات الشفوية ممن عايشوا وشاهدوا او عانوا جسديا او نفسيا اثار الاحداث الموردة في التقارير التفصيلية هذه، او حتى ممن ارتكبوا المذابح والتعديات والسرقات المفصلة مرة تلو الأخرىمن على صفحات كتابه. فهو مثلا لا يجد غضاضة في الاتصال مع شيوخ ورد ذكرهم في الروايات الشفوية او في المراجع المدونة في الارشيفات لتوثيق تلك الاحداث. وان كانوا قد فارقوا الحياة فلا يتوانى المؤلف عن الاتصال بذويهم الاحياء لتقصي الحقائق حول ما حدث او للتفتيش عن وثائق قد تكون بحوزتهم. يحضر الى ذهني مثلا انه في مجرى الحديث عن أحد الفلسطينيين القياديين الباقين في يافا بعد احتلالها والذين كانت قد لاحقتهم أجهزة الامن الإسرائيلية بقسوة وصلافة، يروي مؤلفنا انه اتصل بابن المرحوم هذا القاطن في كندا وانه استشف من المحادثة الهاتفية معه تردده في الحديث حول مثل تلك الاحداث، إشارة كافية للقارئ الفطين الى مدى معاناة هذه العائلة من ملاحقات الاجهزة الحكومية الاسرائيلية لهم.

.كل هذا لا يوفى الدكتور مناع حقه من التقدير لجهوده الكبيرة، إذ أنه يحرص، إضافةلتوثيقه الدقيق، على صياغة طروحاته بشكل منطقي مترابط بحيث يغلف العديد من الاحداث التي تظهر لأولوهلة وكأنها لا إطار يجمعها بتعليق وتفسير يظهر للعيان المنطق الموحد لجميعها كأجزاء من سلسلة مبرمجة ومتمركزه حول بؤرة البحث الأساسية حتى ولو ظهرت لأولوهلة بعيدة عنها، مما يكسب الكتاب صيغة شبه موسوعيه. لنأخذ مثلا على ذلك "الفصل الخامس: حكايات اشخاص وحكايات قرى" الذي يجمع ويوحد بين "عودة أهالي عيلبون وعيلوط وكفر قرع" وبين "عودة المحامي خليل توما عبود المميزة" وخمس روايات تاريخية تفصيلية أخرى بما فيها احداث مذبحة كفر قاسم. ثم يأتي تعقيب مؤلفنا ليربط جميع هذه الاحداث المنفصلة معا في إطار تاريخي حي موحد:
تقدم الحكايات التي أوردها هذا الفصل صورة لحياة الباقين في ظل السياسة العامة التي فسحت احيانا هامشا ضيقا لإمكانات التغلب عليها. لكن تلك الفرص التي استغلها الباقون لمصلحتهم, تكسر الصور النمطية بالأسود والابيض التي ترسمها أكثرية الابحاث عن حرب 1948, ثم حرب اسرائيل على من سمتهم المتسللين في الخمسينات. حكايات الناس وحكايات القرى تمثل نموذجا حيا للتاريخ المحلي الذي يضع الانسان الفلسطيني في المركز. بدلا من القضية والحقوق الجماعية الضائعة. كما انها تضيء الوجه الآخر لعملة الادبيات الإسرائيلية التي تروي اساسا بطولات المنتصرين من دون التفات الى مأساة الطرف الاخر, وتذكر نجاحات بعض القرى  والأشخاص في التغلب على سياسات القمع والتهجير. فالفلسطينيون لم يكونوا ضحايا لا حول ولا قوة لهم فقط, بل فاعلين ناجحين أيضا في تحديد مصيرهم احيانا, رافضين الاستسلام لما رسمه لهم الاخرون وخططوه.
استمر نضال الباقين وصمودهم في بيوتهم ووطنهم المغترب حتى سنة 1956 على الأقل. فحتى اهالي القرى التي لم تهجر ولم تتضرر بشكل كبير خلال الحرب, وجدوا أنفسهم بعد انتهائها يناضلون للحفاظ على أراضيهم في سهل البطوف وقرى الشاغور وغيرها. فبعد السيطرة على اراضي اللاجئين والمهجرين, اتجهت أنظار اسرائيل ومؤسساتها الاستيطانية الى مصادرة أراضي الباقين بحجج أمنية و "تطويرية". وبهذا الشأن لم يكن هناك اختلاف كبير بين مصير اهالي قرى المثلث وأراضي الجليل او غيره من المناطق. بل ان اهالي المثلث عانوا (بسبب قربهم الى الحدود الاردنية) جراء سياسة قمعية تهجيريه وصلت الى ذروتها في مذبحة كفر قاسم سنة 1956. لكن المقدمات لتلك الجريمة الرهيبة كان مخططا لها على جدران قرى "الشريط الحدودي" ما بين وادي عارة وكفر قاسم قبل وقوعها بسنوات.

لا يسعني هنا الا ان أجمل فأقول ان التجميع الموسوعي للمعلومات والتفاصيل حول السؤال المركزي الذي يطرحه الدكتور مناع في مطلع كتابه أثراني معرفيا كثيرا. إني لم اقرأ صفحة في هذا الكتاب دون ان اكتسب حقيقة معرفية أخرى او معلومة تفصيلية جديده حول ما كنت قد اطلعت عليه من احداث النكبة من قريب او من بعيد. وإذا استطعت انا، ابن فلسطين، ان اعترف بهذا المدى من الجهل حول تفاصيل قضيتي الوطنية والإنسانية الاولى والتي كنت قد عايشتها سبعة عقود فكم، حسب تقديركم، ستاتي دراسة الأكاديميين الأجانب مثل طلاب الجامعات الأمريكية، وخصوصا الطلاب اليهود منهم والدين تصرف الحكومة الإسرائيلية وداعموها من الصهاينة الغشم المتزمتين مليارات الدولارات لتعميق تجهيلهم بقضايانا العادلة، كم ستأتي دراستهم لهذا المرجع الحاوي والمفصل بالفائدة المعرفية لهم وكم سيعود ذلك بالفائدة العامة عالميا لقضيتنا المستعصية؟ استرسل هنا بهذا التساؤل لاستنهض همة مؤلفنا واتوسل اليه بان لا يتوانى في اصدار كتابه هذا باللغة الإنجليزية وبلغات اجنبية أخرى. بهذا الصدد. دعوني انهي هنا بان أطمئن الدكتور مناع ونفسي بان الغد لنا، فلي انا ثلاث حفيدات تدرسن اللغة الصينية، لغة المستقبل العالمية، ومثلهن كثيرات وكثيرون.

5 comments:

Unknown said...

Thanks for sharing an article like this. The information which you have provided is better than another blog. I have also share some useful information on other platforms.
echobeat review
chargeboost
liporing toering
docsocks review
livewave antenna

Frank J. Bell said...


Weight Loss

Choco Lite

Resurge

Pure Forskolin

Flash Keto

Phenq

Nucific Bio X4

Instant Keto

Products Review said...

Nice post, thank for sharing this information. It's really makes me understand about that topic. GlowBowl Fresh Review

Jonas said...

I really like the way you write the post and help us with the information. Thank you for sharing this post. Please read my blogs too.
tikitunes review
thephostick review
peeps review
creaclip review
copper protector review

jacksmith01 said...

Amazing article! Your insights were incredibly valuable. I actually wrote a blog post on a similar subject recently. Feel free to have a look at it [url=https://www.top15online.com/article/reverse-health-review]Reverse Health Reviews[/url]
. Keep up the fantastic work!